الجمعة، 10 يوليو 2020

الحنين

 
الحنين 
 العام 1975م مدريد
 
ذهبت إلى مكتبة مدريد العامة تطالع كتب الآثار بغية الحصول على موضوع جديد لمقالة هذا الأسبوع، وقع بصرها على رف بعنوان "العمارة في قرطبة" فذهبت إليه وتحسست الصف بأناملها حتى استقرت عند "الصوامع في جبل قرطبة"، تناولته واستقرت في طاولة لتقرأه، مرت الساعات الطوال دون أن تشعر حتى استوقفها ذلك السطر "وكانت هناك صومعة ليست كسائر الصوامع فقد كانت مزارًا لكثير من المريدين والمنتمين لجماعة سرية تجتمع على طقوس خاصة تحتوي التنسك والورع والزهد في ملذات الدنيا، إلا أنها احترقت على يد جنود الخليفة الأموي بتحريض من علماء المالكية في ذلك الحين ولا يعلم أحد مصير ساكنها أو أصحابه ومريديه حتى الآن". انتبهت إلى كف ينقر كتفها "عفوًا لكن الوقت انتهى يجب أن نغلق المكتبة!. عادت إلى المكتبة في اليوم التالي وتناولت الكتاب، وقرأت "يذكر ميغيل آسين بلاثيوس أن تلك الصومعة كانت لشخص تسمى محمد بن عبد الله بن مسرة، أول من أنشأ الفكر الفلسفي الصوفي في الأندلس بل في الغرب الإسلامي كله، اعتمد التأمل والنظر في وضع أصوله ودلالاته". همست "بلاثيوس! جدي؟ تبسمت للحظة ثم أكملت، "رأى علماء قرطبة الذين اعتمدوا مذهب الإمام مالك بأن أفكار ابن مسرة التي ينادي بها تحمل الكفر والفساد، ويجب محاربتها، وقد خضع الخليفة لذلك الضغط فهو حتمًا لا يريد إغضابهم ففي غضبهم لعنة الإله والعامة وإضعاف للدولة في مواجهة الأعداء والمتربصين، فكان القرار هو الخلاص من مصدر الإزعاج بأقل الأضرار. في ظل هذا الطوفان تنصل كل أصدقائه ومريديه منه، وأخفوا كل صلة تربطهم به، فقرر الرحيل"... عادت لبيتها ودخلت راكضة إلى حيث الجلسة المفضلة لجدتها، فلم تجدها، فهتفت "جولز! أين أنتِ؟ خرجت من المطبخ سيدة عجوز تحمل في ملامحها علامات الأرستقراطية والحزم ثم قالت "جولز؟ ألا يجب أن تكوني فتاة مهذبة وراقية فتناديني بجدتي أيتها الشقية الجميلة! عار عليك أن تناديني جولز! ضحكت الفتاة وقالت وهي تقفز فوق الأريكة "ومن أخبرك يا جدتي الحلوة أنني أنادي عليك! أنا أحدث نفسي! أوليس اسمي جوليانا مثلك تماما؟ وتدلليني بجولز! بينجو! فزت هذه المرة أيضًا! ها! تبسمت السيدة العجوز فقفزت الشابة لتقترب منها وطبعت قبلة على خدها وضمتها بين ذراعيها. فاستكملت الفتاة وقالت " إذا! ماذا كنتِ تفعلين يا جدتي الحلوة أثناء غيابي؟ أجابت جوليانا الكبيرة "أصنع لك كعكة الزبيب والقرفة التي تحبينها! ياجولز الحلوة! تبسمت جولز وقالت "أووه! ما أجملك يا جدتي الحلوة! ثم توجهت جولز الصغيرة إلى الأريكة من جديد وقالت "إذاً سوف أنتظر! لتغيب العجوز إلى داخل المطبخ، وتغوص جولز في أعماق السطور التي قرأتها لتولها... جلسن لتناول الكعكة والشاي. ثم قالت جولز "جدتي! ماذا تتذكرين عن جدي؟ "أووه! كان رجل عظيم! كان تلميذ أبي، ثم تعيّن مدرسًا في الجامعة، ومن ثم... تعرفين ذلك يا جولز! تزوجنا! تقاطعها جولز بقولها "لم أقصد جدي زوجك! بل والدك، بروفيسور بلاثيوس! تنظر جوليانا لحفيدتها مبتسمة وتقول "أهاا! بابا! كان رجل عظيم أيضا! قس عظيم! ومعلم عظيم! ووالد عظيم! كان يأخذني في نزهة شبه يومية بالحصان، فقد كان يخيرني بين النزهة بالسيارة أو الحصان. تسألها جولز في حماس "وماذا كنتي تختارين يا جدتي؟ "كنت دائما أختار الحصان، فيمكن أن نذهب به إلى منطقة الغابة، ونغيب بين الأشجار، ونتجول بين الأزهار، وهذا ما لم نستطع أن نقوم به ونحن في السيارة! فكان دائمًا يوافق على رغباتي. تستطرد بقولها "كان يدللني كثيرًا منذ ولدت، كان يقول إنني أيقونته، ففي عام ولادتي عثر والدي على مخطوط يدوي لذلك الرجل الذي كتب عنه فيما بعد "ابن مسرة"، وقد سعد كثيرًا بعثوره على ذلك المخطوط! ولأجل ذلك أحببت ذلك الرجل فهو من جعلني أيقونة أبي! تعاود جولز ذكرياتها مع ابن مسرة وتقول "لقد قرأت عنه وقرأت كتاب جدي أيضًا، لقد ترجم الكثيرون هذا الكتاب إلى عدة لغات، واقتبس منه الكثيرون أيضًا معلومات عن ذلك الرجل. هذا الرجل لطيف، وله أفكار رائعة، لا أعلم لماذا كانوا يضطهدونه ويطاردونه؟ تجيبها جوليانا "هناك أشياء كثيرة في الحياة ليس لها تفسير يا حلوتي إلا أن النفس البشرية أرادت ذلك! انتهى الحديث مع أخر قطعة من الكعكة وأخر رشفة من الشاي، لكن لم تنته التساؤلات في رأس جولز بعد... قررت أن تلجأ لجدها، وكنزه الثمين الذي تركه منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، مؤلفاته الكثيرة الزاخرة بأشخاص كثر قابلتهم في خيالها، هل كان جدها الذي توفي قبل أن تولد هو من أخبرها بهم؟ بالطبع لا! يا لغبائك! بل كتبه وابنته جوليانا أو جولز! تدخل جوليانا ميغيل آسين بلاثيوس غرفتها لتستعيد لحظات السعادة القديمة من ذاكرتها المليئة بما لذ وطاب من مشاعر حب ودفء، منذ طفولتها حتى شبابها - فحتى اعتقال والدها أثناء الحرب الأهلية الإسبانية لم يحرمها من متعة اقتناص السعادة من بين براثن الحياة - إلى أن غدر بها الزمان وأصاب قلبها بخنجر الحزن العميق وتسبب في جرح لا يندمل. غصة قوية كانت تشعر بها كلما تذكرت جولز الصغيرة والديها أمامها، فجولز فتاة وحيدة للسيد إسحاق فالس، والسيدة ليليان فالس اللذان رحلا في حادث سير عندما كانوا في طريقهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع - فتنقلب السيارة ويموت الأب والأم تاركين أجمل فتاة قد تراها عينيك وهي جولز الصغيرة ذات العشرة أعوام. تتذكر جوليانا حين علمت الخبر وتوجهت إلى المشفى مستندة إلى ذراع زوجها وابنها. يسألون عن الأشخاص المصابين في حادث الطريق السريع، فيظهر التوتر على موظف الاستقبال في المشفى، ويشير إلى الطبيب، الذي بدوره يتوجه إلى الأسرة المفزوعة ويسأل عن والدة السيدة فالس. تتوجه إليه جوليانا وتقول "أنا والدتها! يقترب منها الطبيب ويقول "ابنتك تريد لقاءك يا سيدتي! لكن عليك أن تتحلي بالشجاعة حتى لا تتسببي في إزعاجها! تومئ برأسها دون كلام وتتوجه مع الطبيب إلى غرفة يوجد بها سرير واحد ترقد فوقه ابنتها ليليان تقترب منها جوليانا وتنظر إلى وجهها الذي غطته الدماء والكدمات، تحاول أن تتصنع القوة وتمسك بكف ابنتها وتربت عليه بشدة، تهمس ليليان "أوصيكي بابنتي يا أمي! اعتني بها جيدًا؟ تجيبها جوليانا "سوف نعتني بها سَوِيًّا! تحلِ بالقوة يا ليلي من أجل ابنتك؟ لا تستسلمي للعجز؟ تبتسم ليليان في هدوء وبنظرة تحمل كل معاني الحب تودع والدتها وتغلق عينيها في سكينة ووداعة. تهرب دمعة على خد جوليانا تعيدها إلى أجواء غرفة نومها، تخرج تنهيدة آسى على فقد الأحباب، وتبتسم ابتسامة رقيقة حين تتذكر أن لديها جولز وولدها فرنانديز وأولاده، فشجرة الأحباب لا تخلو من الغصون! تعود بخيالها إلى قاعة كبيرة هي مكتبة جامعة مدريد، في العام 1945، في ذكرى وفاة والدها الأولى، قررت الجامعة تكريمه على مجهوده في مجال البحث التاريخي الذي كرس حياته له.. يعتلي المنصة بروفيسور دانيال غيريرو رئيس الجامعة ليلقي كلمته: نقف اليوم تكريمًا وتبجيلًا لذكرى إنسان قد خدم البشرية بكل كيانه، وحري بنا هنا أن يعلم الطلبة والطالبات قيمة واحد من أعمدة البحث التاريخي المتميزين. ميغيل آسين بلاثيوس (1871ـ 1944). ولد في مدينة سرقسطة، في 5 يوليو، في عائلة بسيطة تعمل في التجارة. كانوا ثلاثة أشقاء، لويس، ميغيل، ودولوريس توفي والدهم، فتولت أمهم أمر إعالتهم. التحق بكلية الآداب بجامعتها، والمعهدالمجمعي، فتخرج قسيساً وقام بأول قداس له في كنيسة سان كاينتو في مسقط رأسه عام 1895. إلا أنه لم يكتف بهذا المنصب، وكانت رغبته في دراسة الأدب العربي والفكر الإسلامي شعلة لا تنطفئ في أعماقه، كانت تدفعه إلى خارج أسوار الكنيسة نحو أروقة الجامعة ومكتباتها. في جامعة سرقسطة، درس اللغة العربية على يد البروفيسور خوليان ريبريرا، ثم التحق بجامعة مدريد للحصول على درجة الدكتوراه عن الغزالي وفلسفته عام 1896. تولى بلاثيوس كرسي اللغة العربية في جامعة مدريد، وسرعان ما ترقى في أبحاثه حتى أصبح من الأساتذة البارزين في ميدانه، فقد دعيّ إلى مؤتمر عالمي في الجزائر عام 1905 وكوبنهاغن في 1908، حول الإسلام مع نخبة من الأكاديميين والمستشرقين. شارك في إصدار مجلة الثقافة الإسبانية 1906-1909 واختير عضواً في الأكاديمية الملكية للعلوم سنة 1912. ثم عيّن عضواً في الأكاديمية الإسبانية عام 1919. نشر قبل وفاته (109) بحثًا. تركز عمله الأكاديمي على دراسة اللاهوت المسيحي والإسلامي في القرون الوسطى، مع التركيز على إسبانيا بالدرجة الأولى. فأصبح نوعاً من المثقف التاريخي، المختص بالمفكرين العرب أمثال الغزالي، ابن عربي، ابن رشد، ابن حزم، ابن مسرّه وكلهم ينحدرون من الأندلس فيما عدا الغزالي. وإلى جانب هؤلاء، درس المفكرين الغربيين أمثال رامون لول، وتوما الأكويني، ودانتي الييغري وبليس باسكال وغيرهم. بدأ بنشر أبحاثه ومقالاته التي تُعد بالآلاف في مجلة "الأندلس"، المتخصصة في الدراسات الأكاديمية منذ عام 1933. وسرعان ما تحولت هذه المجلة إلى منبر إلتف حوله المستشرقون والأكاديميون الشباب، ووجدوا في أستاذهم بلاثيوس الأب الروحي، مما ساهم في ظهور جيل جديد من المستشرقين والمهتمين باللغة العربية والفكر الإسلامي أمثال إيميليو غارسيا غوميز. لكن نشوب الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936 أدى إلى توقف أبحاثه، نتيجة إلقاء القبض عليه في سان سباستيان في الباسك عندما كان يزور أحد أقربائه. ولدى خروجه من السجن، بدأ يواصل أبحاثه عن المخطوطات العربية. وتمكن من العودة إلى مدريد، والانكباب على التأليف بعد انتهاء الحرب الأهلية. تعددت أبحاثه التي كان لها الصدى الكبير في الأوساط المثقفة آنذاك. حيث ناقش باستفاضة التأثيرات الإسلامية على توماس الأكويني (1225 ـ 1274)، وتأثيرات ابن رشد عليه، وربط علاقتهما بالفلسفة اليونانية، مؤكداً على عقلانية ابن رشد في جميع تفسيراته الدينية. وعلى الرغم من كونه راهباً ومتديناً إلا أن مؤلفاته تميزت بروحها الحيادية والأكاديمية الصرفة. وحازت آراؤه حول التصوف في الإسلام على استحسان جميع المستشرقين الإسبان. واشترك مع كبير المستشرقين، لوي ماسينيون، بالعمل سوية على هذا الموضوع. ولموضوعيته، تقبلت الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية كل ما جاء به من أفكار حول الإسلام. فكان سعيه للعلم سعيًا محمودًا وسيظل عطاءه الإنساني نهرًا جاريًا يرتوي منه كل متعطش للمعرفة والوصول للحقيقة. انتهت كلمة رئيس الجامعة وصفق الحضور، ثم صعدت إبنته لتتسلم درع الجامعة تكريمًا لذكرى والدها وقد كانت تحمل مشاعر الفخر والإعتزاز لأب كان في عيونها الرجل العظيم الذي لم تنجب إسبانيا أحدًا في عظمته. عادت السيدة جوليانا كوديرا وزوجها آليخاندرو كوديرا مع ابنتهما ليليان، وولدهما فرنانديز حاملين الدرع، وعلامات الرضا والفخر تزيد من لمعان عيونهم، يصلون إلى بوابة تفتح ذراعيها على حديقة جميلة تحيط بمنزل بسيط لكنه راقي، وصوت الحارس يظهر من العدم ويصدح بكلمات الترحاب والسعادة. تتوجه إلى غرفة المكتب وتضع الدرع في أحد الرفوف الظاهرة بالمكتبة ثم تنظر إلى الغرفة، ذات الجدران المكتظة بالكتب، والتي لم يتغير ديكورها منذ كانت في حضن أبيها وأمها. تبتسم جوليانا حين تتذكر طفولتها التي عاشتها في هذا المكان، كم من الذكريات الجميلة التي ما زال وجدانها يحتويها، هنا في ذلك المكان، حيث شهدت جدرانه كل إنجازات أبيها، طاولة في المنتصف تلتف المقاعد حولها، ومكتب فخم، يقبع خلفه رجل وسيم قد ناهز الأربعين تشع عينيه عبقرية وسماحة وحب، منكبًا على أوراقه ممسكًا قلمه. تبتسم جوليانا وتتوجه إلى غرفة المكتب لتتنسم ذكرياتها مع تلك الغرفة وساكنها الجميل، تدور وسط الغرفة فتسمع وقع خطوات راكضة من الباب لفتاة صغيرة، إنها هي جوليانا نفسها في سن الرابعة. تركض إلى أبيها وتصيح "بابا! هل تعمل؟ يجيبها ميغيل "نعم يا حبيبتي! تخاطبه جوليانا بصوت حزين "أريد أن أتحدث معك! فيجيبها بسؤال "هل يجب أن أنظر إلى عينيكِ حين تتحدثين؟ فقد أعتادت أن تراه يغوص في عينيها مظهرًا كل إهتمام لما تقول منذ أن نطقت بالكلمات. تجيبه جوليانا في تفهم "ليس ضروريًا فأنا أعلم أنك مشغول بشيء مهم، لكن! "شكرًا لك يا حبيبتي على تفهمك! ماذا بك إذا؟ "جئت أشكو أمي! "ماذا فعلت؟ "أخذت علبة الكعك مني ووضعتها أعلى خزانة المطبخ، وقالت: يجب ألا أكثر من أكل الكعك حتى لا أصاب بالمرض! "لكنها محقة يا صغيرتي! ترد جوليانا في يأس مصطنع "لكني أحبه يا بابا! "كلنا نحب الكعك يا حلوتي لكن ماما وأنا نحب أن نراكِ دائمًا بصحة وعافية! وهذا لن يتوفر إن أفرطت بتناول الكعك! تخضع جوليانا بآسى وتقول "حسنًا! هلا أخبرتها أن تعطيني واحدة فقط؟ وهنا تدخل لوسيلا بكوب من الشاي وطبق من الكعك فزوجها يعمل منذ وقت بعيد ولم يتناول شيئًا بعد! فصاح الأب "ها قد جاء الكعك يا حلوتي يمكنك أخذ ماتريدين! لكن لوسيلا تسارع بالرفض بقولها "لا يجب أن تأكل كعكًا إضافيًا فقد أكثرت في تناوله اليوم! تتوسل جوليانا لأمها "كعكة واحدة يا أمي! لو سمحتِ؟ وأمام النظرات البريئة المتوسلة لم تجد الأم بدًا من الموافقة. فجأة يقفز الأب ويهتف "آلوها! لقد انتهيت، ويركض إلى زوجته ويقبلها ويحمل ابنته ويدور بها في الغرفة فرحًا. تسأله لوسيلا في لهفة "هل انتهيت من تحقيق مخطوطك الجديد؟ يجيبها ميغيل بفرح "نعم! انتهيت من الورقة الاخيرة من ذلك الكشف العظيم، وكل كلمة في ذلك المخطوط تأكد ما جاء في المخطوطات السابقة! فهي تحمل أحداث كثيرة، تتعلق بذلك الرجل! فهو ليس فقط صاحب الفضل في وصول أفكار إخوان الصفا إلى الأندلس! لكنه أيضًا صاحب الفضل في تطور الفكر الفلسفي في الأندلس، وانتشار المدارس الفلسفية فيما بعد! "حقًا ما تقول؟ "نعم! أليس هذا رائعًا؟ هذه الجماعة لم تعد حكرًا على المشرق وحده! فقد أوجدها هذا الرجل في الغرب أيضًا! استمر وجودها حتى بعد انتهاء حكم العرب لإسبانيا! فحتى محاكم التفتيش لم تستطع أن تتصدى لإنتشار هذه الأفكار. فقد وصلت أفكاره إلى ما بعد تنصر المسلمين. ترد لوسيلا بنبرة حماسية "كنت واثقة من أنك قادر على ذلك يا عزيزي! لكن هل ستنشر هذا البحث كبحث مستقل أم ستنشره كإستكمال لما نشرته؟ يجيبها ميغيل في تردد "لا أعلم يا لوسيلا! ربما هي أحداث كثيرة تحتاج لبحث جديد، لكني أيضاً أرغب في تأكيد الصلة بين ابن مسرة ومدرسة آلميرية الفكرية، وأنه هو شيخ أولئك الذين لم يذكروه في مؤلفاتهم! لم تكن تعرف جوليانا ماهو الشيء الذي أسعد أبيها لهذه الدرجة؟ ومن هو ذلك الرجل محل الحديث؟ الذي طالما تحدث أبيها عن الصلة التي بينها وبين عثوره على ذلك الرجل! وماهذه الجماعة التي يتحدث عنها؟ قد عرفت فيما بعد أنها جماعة سرية تسمى جماعة إخوان الصفا، ذاع صيتها في المشرق وخاصتًا العراق "البصرة" وكانت لها مؤلفات وتأملات كثيرة، ولم يُشِر أحد لوجود أثر لهذه الجماعة أو لأفكارها في الغرب الإسلامي، إلا أن مخطوط ذلك الرجل قد أثبت رأي أخر- فما يحويه هذا المخطوط الذي تستر داخل صحيفة مرسلة لشخص، تحمل اسم "الاعتبار" تتضمن عدة أفكار تتخذ صيغة الرد على سؤال- تلك الأفكار تتفق في الأسلوب والرؤية مع رسائل إخوان الصفا. وهذا يعني أن ابن مسرة قد ألتقى بتلك الجماعة خلال رحلته إلى المشرق، هربًا من إضطهاد الخليفة الأموي وعلماء المالكية في قرطبة. لكن متى ألتقى بهم وأين؟ هذا ما كان محل بحث من قبل البروفيسور بلاثيوس. استيقظت جوليانا من غفوتها، على صوت حفيدتها جولز تقول "صباح الخير يا جدتي! لقد تأخرت كثيرًا عن الإستيقاظ في موعدك اليوم! هل أنتِ بخير؟ "نعم يا حبيبتي!أنا بخير. تستكمل جولز حديثها "لقد اتصل خالي فرنانديز ليطمئن عليك قبل أن يذهب لعمله، وحين أخبرته أنك مازلت نائمة قلق عليك وخشي أن تكوني مريضة! أجابتها جوليانا وهي تنهض من فراشها "سوف أهاتفه بعد أن أتناول قهوتي، فأنا أشعر بألم شديد في رأسي. "حبيبتي يا جدتي! هل نذهب إلى المستشفى؟ "لا داعي! ربما السهر ليلة أمس هو ما تسبب في ذلك الألم! تتعجب جولز من كلام جدتها وتسأل "سهر! كيف ذلك "على إثر حديثك معي بالأمس! تذكرت جدك وأخذت أقلب في أوراقه القديمة حتى غلبني النوم، لكن يبدو أنني أطلت السهر كثيرًا. "إذًا سوف أجهز لك القهوة ونتحدث عما تذكرتيه ليلة أمس فأنا لدي شغف لأسمع كل ذكرياتك! لكن ليس قبل أن تتصلي بخالي لتطمئنيه عليكِ! تغيب جولز فترة من الوقت، وتنهي جوليانا مكالمتها مع ابنها، فتجد أن جولز عادت وهي تحمل القهوة والكعك والفطور لجدتها، ومن ثم جلسن لتناوله. تبدأ جولز بالسؤال "لقد أخبرتني يا جدتي أن جدي عثر على مخطوط ابن مسرة في عام مولدك! "نعم! "إذا كيف حدث ذلك؟ تجيب جوليانا وهي ترشف القهوة "هذه قصة طويلة عرفتها من أمي بعد أن كبرت. تعدل جولز جلستها وتظهر الاهتمام ثم تقول "أريد أن أعرف القصة يا جدتي! أرجوكِ! تبتسم جوليانا وتسأل حفيدتها "أراك أصبحت مهتمة بابن مسرة هذه الأيام؟ تجيبها جولز في حماسة "نعم، حدسي يخبرني أنه رجل عظيم وقد ظلمه التاريخ، ولولا حب جدي له لما عرفه العالم! "هذا صحيح! فحياة هذا الرجل قد بعثت من جديد على يد جدك. "حسنًا إذًا! احكي لي الحكاية!

الجمعة، 2 ديسمبر 2016

رسائل الطيور

كان يبلغ من العمر الكثير، فقد انحنى ظهره، وضعف بصره، وخارت قوته، يخرج كل يوم من بيته، حاملاً على كتفه "مخلته" شنطة مصنوعة يدوياً من القماش، تحتوي ثقباً صغيراً من الأسفل، يحمل فيها غلال، تسقط من مخلته، منذ خروجه من البيت حتى يصل إلى حيث أراد، ثم يعود ومخلته خالية.
جاء لأحد أهل القرية أحفاد لهم لزيارتهم، فكانت فيهم فتاة شابة جميلة ومرحة، سمعت منهم كثير حكايات عن ذلك العجوز العاشق المخلص، الذي يخرج كل يوم من بيته إلى المقابر ليزور زوجته المتوفاة منذ سنين، فأخذها الفضول كي تعرف ما سر الرحلات اليومية إلى قبر زوجته، ولماذا لا يكترث لحقيبته المثقوبة، والحب المتساقط منها مهدوراً في الطريق!. فقررت أن تنتظره في صبيحة يوم وترافقه في رحلته علها تقف على سر ذلك العجوز، إن كان له سر من الأساس.
خرج العجوز من بيته، حاملاً مخلته المثقوبة كالعادة، وتوجه إلى طريقه، قفزت الفتاة حتى أصبحت أمامه، وقالت: صباح الخير، ياجدي.
رد العجوز: صباح الخير.
الفتاة: أنا اسمي زهرة ياجدي، حفيدة الحاج غنيم، ووالدي الاستاذ يوسف، نسكن في مصر، وجئنا في زيارة لجدي وجدتي
العجوز: اهلاً بكم ومرحباً
الفتاة: جدي، هل ارافقك في الطريق! أريد أن اتحدث معك قليلاً إذا لم يكن في ذلك ازعاج لك!
العجوز: على العكس، وهل انزعج من مرافقة فتاة جميلة وشابة ومرحة مثلك! تفضلي طبعاً، ولكن أخاف أن تكون مرافقتك لعجوز مثلي، مثار ملل وضجر فمثلي لا يجيد فنون التسلية.
الفتاة: اشكرك كثيراً، ولكنك لطيف جداً
ساراً سوياً، لكن العجوز صامت، والفتاة، مترددة، كلما همت لتتحدث، يلجمها الحياء، والخشية من صد العجوز لتطفلها.
ولكنها استجمعت قوتها، وقررت الحديث وقالت: جدي! لماذا تحمل حقيبة مثقوبة، يتساقط منها الحب على الأرض، ويضيع هباءاً؟
رد العجوز باسماً: وما أدراكي أنه يضيع هباءاً؟
ثم عاد لصمته مرة أخرى، ولكنها قررت أن تتجرأ أكثر فأكثر، أنا اجد أنه يضيع في الأرض، والناس والطيور أولى به!
قال العجوز: الطيور تحصل عليه يا ابنتي! هذا طريق الطيور، اعتادت عليه منذ سنين طويلة
قالت: إذاً أنت من ثقب الحقيبة عامداً لتسقط الحب، فتأكل الطيور مايسقط منها! ااااه هذه الحكاية إذاً
ولكن! لماذا تفعل ذلك؟ كان في مقدورك أن تلقيه أمام بيتك، وتشاهد الطيور وهي تأكل، فهو مشهد جميل يستحق النظر، ولا تتكلف مشقة المشي وحمل الحقيبة على كتفك!
قال العجوز: هذا طريق، جاءت لي منه رسالة منذ عقود بعيدة، وبعد أن وقفت على الرسالة، أخذت العهد أن اكملها، مهما تكلفت من مشاق.
ترد الفتاة في حماسة وشغف: رسالة! أية رسالة؟ ثم تداركت أنها وقعت في شرك الفضول والتطفل، فربما لا يريد أن يتكلم، فقررت الاعتذار وقالت: عفواً ياجدي، ان اثقلت عليك، ولكني وجدتك شخصاً لطيفاً لا تبخل عليّ بالحديث الدافيء
قال العجوز: لا عفو ولا ثقل، فلو سألني أي أحد في القرية لأجبته، ولكنك الوحيدة التي رافقتني وسألتني، ربما ذلك لحكمة، ربما. سوف أحكي لك الحكاية:
كنت شاباً في مقتبل العمر، متفاخراً بوسامتي وحسبي ونسبي ومالي، كنت متكبراً لدرجة الغرور، كانت كثير فتيات، يهمن حباً فيّ، وأنا لا اكترث لهن جميعاً، كنت لا أجد فتاة واحدة تستحق أن أبادلها مشاعر إعجاب، او حتى نظرة رضا. حتى جاء صباح يوم استيقظت على صوت طيور كثيرة أمام بيتنا، تغني وتزقزق، ويعلو صوتها بالصياح. خرجت فوجدتها تأكل من حبوب قد بدرت أمام البيت. لم اهتم ساعتها، فصوتها قد ازعجني بعد ما ايقظني من نومي. ولكن الأمر تكرر صباح كل يوم، حتى أنني ذهبت لأمي اشكو إليها، انها تلقي الحب للطيور، فتأتي وتزعجني وتوقظني من نومي، فأخبرتني أمي أنها لم تلقي حباً ولا أي طعام لا لطيور ولا لغيرها. إذاً من يفعل؟ قررت أن أنظر للحب والطيور، فوجدتني أميل إلى الإبتهاج، نعم فقد دخلت السعادة إلى قلبي. ولكني لاحظت أن الحب لم يكن فقط عند بيتنا، فبعد أن تفرغ الطيور من الطعام أمام البيت تذهب في طريق ممتد مبدور بالحبوب، فقررت أن اتتبع الحب، فوجدته ينتهي إلى مكان خال من البشر. أخذت ابحث علّني أجد من يلقي الحب للطيور، ولكني لم أجد. عدت خائباً إلى البيت، متعجباً من الامر.
استمر الحال شهوراً، حتى وجدتني أذهب إلى حيث انتهى بي طريق الحب، فوجدت رسالة مكتوبة تحت كومة حبوب، اخذتها وفتحتها وقرأتها. فجاء فيها:
بسم الله، فالق الحب والنوى، منزل القطر، مخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي، خالق الحياة في قلب الصخر. هذه رسالتي إليك، فمتى وصلت إليك فاعلم أنك سبقت الطيور إليها، لأن الطيور متى سبقتك، أكلت الحب، وتركت الرسالة، عرضة للهواء يحملها حيث شاء، فيضيعها، وافقد الفرصة في إخبارك بما يكنه قلبي لك. أنا فلانة بنت فلان، كنت أبدر الحب من بيتك على امتداد الطريق إلى هذه البقعة، ثم أضع رسالتي تحت كومة من الحب، فمتى أكلتها الطيور، علمت أنك لم تنشغل بعد، ولم يهفو قلبك للوصول بعد، ولكني لم أيأس يوماً من وصولك، فها قد علمت، فأنظر ماذا ترى؟ والسلام.

تزوجتها، وعشت معها حياة ما كنت سأعيشها بدونها أبداً، فقررت وفاءاً لسعادتي التي منحتني إياها، أن أبدر الحب من بيتي إلى حيث وضعت الرسالة، وحيث دُفنت أيضاً، إلى هنا، إلى هذا المقام. ورسالة الحب خاصتي هي أنا، وحديثي معها كل يوم، حيث اخبرها أنها حبيبتي، ومليكة قلبي، وسبب بهجتي، منذ عرفتها وحتى أعود إليها ونلتقي من جديد بعد أجل لا يعلمه إلا الله.

الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

امرأة مازالت تتنفس في عالم الأحياء

استيقظت من نومها، وتوجهت إلى المرآة، فوجدت الوجه الذي اعتادت على إخفاء ملامحه منذ زمن بعيد حتى نسيته، او تناسته، امسكت فرشتها، وبدأت من اسفل العينين حيث سواد يشبه رداء الأرامل، ثم الخدود باهتة كصباح لاشمس فيه، ثم شفاه جافة، كنهر فقد ماءه، ثم رموش كغصون الاشجار الخالية من الأوراق، وجبين كصحراء قاحلة، تشتاق للنسيم، انتهت من زينتها، ارتدت باروكتها، ثم ارتدت فستانها المطرز بخطوط ذهبية وماسات لؤلؤية، سقط أغلبها وتركه مسخ فستان، يثير السخرية والضحك لكل من يراها، ولكنها لا تعبء بهم جميعا، لا تنتبه لأحد قط في طريقها، تذهب إلى المدرسة، حيث مقر عملها، نعم انها مدرسة رسم في مدرسة ثانوي، اعتاد الناس على هيئتها، كما اعتاد المدرسين زملائها، وكذلك الطلبة، رغم تعاقب وجودهم، وتغير وفودهم على المدرسة، إلا أن الجديد، حين يراها يتفاجىء من مظهرها الرث، ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الفجاءة، من أثر اعتياد الطلبة القدامى وتعاطيهم مع أمرها الشاذ والغريب...
ميس عطيات! هكذا لقبها، منذ ان فقدت زوجها وابناءها في حادث سيارة، وهي على هذه الهيئة لم تبرحها، منذ عشر سنين، نعم! لقد فقدت الاحساس بالزمن، والحياة، والوجود، والكون كله، لا تعرف إلا روتينها اليومي، لا أحد يعرف هل تأكل، أو تشرب كباقي البشر! هل تنام أو تستحم كباقي البشر! هل لديها أهل، معارف، أصدقاء، كباقي البشر! هل هي بشر من الأساس لتكون لها حياة كباقي البشر!! ما نعرفه هو هيكل بشري تكسوه الزينة الرثة، ويغلفه العطر الذي يشبه عفن القبور، والفستان الذي فقد كل بهجة فيه، فصار خرقة يواري سوءة امرأة مازالت تتنفس في عالم الأحياء..